المرأة العجوز والجرة المثقوبة

     في قريةٍ صغيرة نائمة بين أحضان الجبال الشاهقة، حيث ترقص السهول على أنغام الرياح، وتنساب الوديان كأنها أنشودة نسجها الزمن بلطف، كانت تعيش امرأة عجوز تُدعى "أم سلمى". لم تكن أم سلمى مجرد امرأة مسنّة تجاوزت السبعين من عمرها، بل كانت رمزًا للحكمة والصبر، مرآة تعكس حكايا الأجيال، وذاكرة حية تحفظ تفاصيل الماضي وتفاصيله الصغيرة.

    عاشت وحدها في بيتٍ طينيّ صغير تحيط به أشجار اللوز والتين، وكان سكان القرية يكنّون لها احترامًا خاصًا، ليس فقط لأنها الأكبر سنًّا، بل لأنها كانت تحمل في قلبها حنان أمٍّ، وفي عينيها صفاء روح لم يتلوث بضغائن الأيام.

الرحلة اليومية إلى البئر

     كانت أم سلمى، رغم ضعف جسدها، تنهض كل صباح قبل أن يلامس ضوء الشمس قمم الجبال، فتوقظ الدجاج، وتهمس لقطتها العجوز، وتلبس ثوبها القروي المطرز، وتضع جرتها فوق رأسها. ثم تبدأ رحلتها اليومية نحو البئر الواقعة عند أطراف القرية، في طريق صخري ضيق يتخلله الحصى والشوك، لكنه لم يكن يخيفها أو يثقل خطاها.

   لم تكن الرحلة مجرد مشوار لجلب الماء، بل كانت طقسًا روحانيًا تتطهر به من هموم الحياة. كانت تسير ببطء، تستنشق هواء الصباح النقي، وتنصت إلى زقزقة العصافير، وتُسلم قلبها للسكينة التي لا تجدها إلا في ذلك الطريق.

رفيقة الدرب: الجرة المثقوبة

   كانت أم سلمى تمتلك جرتين لجلب الماء من البئر: الأولى جديدة، قوية البناء، ملساء الجدران، تحبس الماء كما لو كانت صندوقًا مغلقًا على كنز ثمين. أما الثانية، فكانت جرة قديمة، من زمنٍ بعيد، تشققت أطرافها، وظهر على جانبها الأيسر ثقب صغير، لا يُرى إلا حينما تميلها قليلاً تحت الضوء.

   كانت هذه الجرة قد صحبت أم سلمى لسنوات طويلة، ربما منذ شبابها، حين كانت تحملها بخفة الفراشات، وتجري بها عائدة من البئر وهي تضحك مع صديقاتها. ومع مرور الزمن، شاخت الجرة كما شاخت هي، وبدت عليها آثار الزمن كما بدت التجاعيد على وجه صاحبتها.

 كثيرون من أهل القرية كانوا يستغربون تمسكها بها. كانوا يقولون لها:
– "أما آن لكِ أن ترمي هذه الجرة وتشتري واحدة جديدة؟ إنها لا تحفظ الماء!"
وكانت أم سلمى تكتفي بابتسامة هادئة، تميل فيها رأسها قليلًا، وترد بنبرة محببة:
– "وما المشكلة إن كانت تسقي الأرض؟"

   لم تكن الجرة المثقوبة بالنسبة لها مجرد وعاء قديم. كانت شيئًا أعمق من ذلك، كانت رفيقة درب. كانت تراها ككائن حي، تعرف ملمسها، تحفظ صوت الماء بداخلها، وتشعر بالدفء حين تلمسها يدها.

   كانت كل خدش في سطحها يحكي حكاية. ذلك الشرخ الصغير عند العنق – يوم تعثرت في طريق العودة. وذلك الخط الداكن على جانبها – يوم علقت الجرة في صخرة وكانت على وشك أن تنكسر. بل حتى الثقب نفسه، كان بالنسبة لها كجرح في جسدٍ عزيز، تتذكر متى حدث، وكيف ظلت الجرة بعدها وفية، صابرة، تؤدي وظيفتها رغم النقص.

   في كل مرة كانت تضع الجرتين على كتفيها، كانت تشعر أن الجرة المثقوبة ليست مجرد خزف، بل قطعة من روحها. كانت تسير بجانبها كما يسير الإنسان بجانب ذكرياته، لا يتخلى عنها، وإن أثقلته أحيانًا.

   كانت تعلم أن الناس يرون فيها "شيئًا ناقصًا"، لكنها وحدها كانت ترى فيها جمال الكمال غير الظاهر، ذلك الذي لا يُقاس بالكفاءة، بل بالوفاء، وبالقدرة على العطاء رغم الجراح.

   وهكذا، ظلّت الجرة المثقوبة تسير معها كل يوم، لا تتذمر، ولا تشتكي. تسكب الماء، وتسقي الأرض، وتترك أثرًا رطبًا يعرفه الطريق... ويعرفه قلب أم سلمى قبل كل شيء.

الخط الرطب... وأثره الخفي

   مع كل خطوة تخطوها أم سلمى في طريق العودة من البئر، كانت قطرات الماء تتسرب بهدوء من الجرة المثقوبة، تنساب بصمت على التراب القاسي، كأنها دموعٌ تُسكب بلا صوت. كان الخط الرطب يمتد خلفها كأثرٍ خافت، لا يلاحظه المارّة، ولا ينتبه إليه أحد من أهل القرية المنشغلين في تفاصيل يومهم.

   لكن أم سلمى، بعينها التي اعتادت رؤية ما لا يُرى، كانت تراقب هذا الخط كما يراقب العاشق طيف محبوبه. لم يكن مجرد ماء يضيع، بل كان رسالة خفية، تسافر من الجرة إلى الأرض، ومن الأرض إلى قلبها.

   في بعض الأيام، كانت تتوقف فجأة في منتصف الطريق، تنظر خلفها، وتراقب كيف يمتد ذلك الخط الرقيق، وكأنها تبحث فيه عن معنى يتجاوز الظاهر. شعورٌ غريب كان ينتابها كلما رأت الأرض تشرب القطرات العذبة، كما لو أنها تشهد سرًّا صغيرًا يتكرر كل صباح، لا تملك تفسيره، لكنها تشعر به يتسلل إلى وجدانها، ويمنحها راحة لا توصف.

   ومع مرور الوقت، أصبح الخط الرطب بالنسبة لها شيئًا حيًّا، له روح، وله حضور. كانت ترى فيه شكلًا من أشكال العطاء الهادئ، غير المعلن، كأن الجرة المثقوبة، رغم كسرها، لم تتوقف عن البذل، بل كانت تعطي دون أن تطلب شكرًا، تسقي الأرض عطشًا وهي تنزف، لكنها لا تشكو.

   وهكذا، مرت الأيام، وتلتها الأسابيع، ثم الأشهر، وأم سلمى لم تغيّر عادتها، ولم تفكر يومًا في رتق الجرة أو استبدالها. كانت تشعر أن هناك غايةً من هذا "الهدر" الظاهري، وأن لكل شيء يحدث على هذا الطريق، حتى القطرات التي تضيع... حكمة لا يعرفها إلا من يصغي لما تقوله الأشياء بصمت.

   إلى أن جاء ذاك الصباح المختلف... حيث انكشف الستار عن السر، وتجلّى أثر الخط الرطب بما لم يكن في الحسبان.

زهر الطريق... المفاجأة التي نبتت من الصمت

   في صباحٍ مشرق، بعد ليلة مطيرة، بينما كانت تمشي على الطريق، لاحظت شيئًا لامعًا يتلألأ بين الأعشاب. اقتربت قليلاً، فإذا بها ترى أزهارًا برية صغيرة قد نبتت على جانب الطريق، تمامًا في المسار الذي كانت تسلكه جرتها المثقوبة.

   أزهار صفراء، وردية، بنفسجية، كلها تتمايل برقة كأنها ترقص للضوء. كانت تنمو في خط مستقيم، أشبه بسجادة طبيعية من الجمال، تزيّن الطريق الذي كان فيما مضى خاليًا من أي حياة.

   وقفت أم سلمى، وجرتها فوق رأسها، تحدق في هذا الجمال المفاجئ، وشعرت بدمعة ساخنة تتسلل من طرف عينها. أدركت فجأة، أن الماء الذي كانت تظنه مهدورًا، لم يكن كذلك. لقد كان يروي الأرض العطشى بصمت، يسقي البذور المدفونة في أعماق التراب، ويمنحها الحياة.

الدرس العظيم... والحكمة التي لا تصدأ

   عادت أم سلمى إلى بيتها ذلك اليوم، لكنها لم تعد كما كانت. كان في عينيها بريق جديد، وفي قلبها نبض مختلف. لقد حملت معها من الطريق المزهِر ما هو أعظم من الماء، وأثمن من الزهور. حملت معها حكمةً وضيئة، نضجت في أعماقها كما ينضج الثمر بعد صيف طويل من الانتظار.

   جلست على عتبة دارها، تنظر إلى الأفق البعيد، والجرة المثقوبة بجانبها، تلمع تحت أشعة الشمس كأنها ابتسمت أخيرًا بعدما فُهِمَت رسالتها. فهمت أم سلمى – بعين القلب لا بالعقل – أن ما نراه "نقصًا" قد يكون في الحقيقة أداة خفية لصنع الخير والجمال، وأن الكمال ليس شرطًا للعطاء، ولا تمام الشيء مقياسًا لقيمته.

   أدركت أن كل إنسان، مهما بدا ضعيفًا أو مكسورًا، يحمل داخله إمكانية لصنع فرقٍ ما، ولو كان أثره غير مرئي للعيان. مثل الجرة المثقوبة، التي لم تحجز الماء لنفسها، بل منحته للأرض، نقطة بعد نقطة، حتى أزهرت الحياة في صمت.

   ومنذ ذلك اليوم، أصبحت أم سلمى تحفظ هذه الحكمة وترويها لمن حولها، لا بالأمثال فقط، بل بالأثر الحيّ على الطريق. كانت تجمع الأطفال حولها وقت الغروب، يجلسون تحت شجرة التين العتيقة، وتروي لهم حكاية "الجرة المباركة"، بصوت دافئ يحمل نبرات الحب والتجربة.

كانت تقول لهم:
"لا تخجلوا من عيوبكم، فربما فيها سرّ عطائكم.
لا تتعجلوا إصلاح كل ما كُسِر، فبعض الكسور تفتح نوافذ للنور.
واعلموا أن أجمل الزهور قد تنبت من أثرٍ تركه شيءٌ ظنه الناس بلا فائدة."

   وهكذا أصبحت الجرة المثقوبة رمزًا حيًّا في القرية، يراه الجميع بعين جديدة. لم تعد قطعة من خزف قديم، بل صارت رمزًا للأمل، والعطاء غير المشروط، والحكمة التي لا تصدأ مع الزمن.

الخاتمة

   وهكذا، يا صديقي، في عالمٍ يطلب الكمال دائمًا، تعلّمت أم سلمى – وعلّمتنا – أن في النقص كمالًا لا يراه إلا من ينظر بعين القلب. وأن العطاء، حتى لو تسرب على الطريق، يظل يزرع أثرًا لا يُنسى.

ففي كل واحد منا جرة مثقوبة، وفي كل جرة مثقوبة... زهرة تنتظر أن تنمو.

أسئلة شائعة حول القصة

ما المغزى الأساسي من القصة؟
  • المغزى هو أن النقص الظاهري في بعض الأشياء قد يحمل فائدة خفية، وأن العطاء بدون مقابل قد يصنع فرقًا كبيرًا في الحياة.
لماذا لم تستبدل أم سلمى الجرة المثقوبة؟

  • لأنها لم تر فيها مجرد وعاء مكسور، بل وجدت فيها درسًا في العطاء غير المشروط.

ما الذي جعل الأزهار تنمو على جانب الطريق؟
  • الماء المتسرب من الجرة المثقوبة كان يروي الأرض، مما ساهم في نمو الأزهار.
كيف يمكننا تطبيق درس القصة في حياتنا؟
  • يمكننا أن نبحث عن الفوائد المخفية في تجاربنا الصعبة، وأن نستفيد حتى من أخطائنا ونقائصنا.
ما الذي يميز أسلوب القصة؟
  • الأسلوب بسيط ومليء بالصور الحسية، مما يجعل القارئ يعيش التجربة ويتفاعل مع تفاصيلها.
تعليقات